أ. د. صالح بلعيد يكشف ملامح كتاب (ظواهر لغويّة في المُعجمِيّة العربيّة)

أ. د. صالح بلعيد رئيس المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر
أ. د. صالح بلعيد رئيس المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر

 قال البروفيسور صالح بلعيد رئيس المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر، عضْو مَجمَع القاهرة من الجزائر: سعدت أيّما سعادة أن أصل إلى كتاب الصّديق (مُصطفى يوسف) عبر تلك الملخّصات الشّبكيّة التي أُرسلت لي، علمًا أنّ الكتاب في نسخته الورقيّة نزل للبيع في معرض الكتاب في القاهرة، وقد صدر عن دار النّابغة مَطلع العامّ الجاري 2024م، وعنوانه (ظواهر لغويّة في المُعجمِيّة العربيّة: دراسات تطبيقيّة) في 295 صفحة مِن القطع المُتوسّط، للدّكتور (مُصطفى يوسف عبد الحيّ) الأستاذ المُساعد والمُتحدّث الرّسمي لمجمَع اللّغة العربيّة، وقد قدَّم للكتاب عضو مَجمَع اللّغة العربيّة بالقاهرة أ.د. (مُحمّد العبد) أستاذ العلوم اللّغويّة بكلّيّة الألسن بجامِعة عين شمْس. هذا الكتاب هو توليفة مِن خمْسة أبحاث، نشرها المُؤلّف في عدد مِن المجلّات، وقد اشتمَل كلّ فصل مِن فصول الكتاب الخمْسة مَقالًا مِن تلك المَقالات. وتنالني السّعادة بكتابة هذا المَقال، ليكوُن لي السّبق، وقد أنال شرف توصيل بعض مَفاهيمه إلى القارئ العربيّ، ويبحث عنه لمَزيد مِن الدّراسة له ومِن خلاله؛ باعتباره يستحقّ النّظرة العلمِيّة التي تُنزل هذا المَنتوج اللّغويّ مَنزلتَه، وتضفي عليه النّقود التي تضيف له المِصداقيّة، وكلّ ذلك لا يفسد للودّ قضيّة؛ حيث ازدهار الحركات الثّقافيّة والعلمِيّة لا يمْكن أن تحصل إلاّ بالنّقد المُضيف والمُنيف، وهذا ما لمِسناه في أدبنا في الأندلس، فلولا النّقد لما تألّق الشّعر، ولولا تلك النّقود التي تصدر مِن خيمَة الحطيئة في الجاهليّة لما كانت المُعلّقات تستحقّ التّعليق على أعتاب الكعبة. 
وقد اشتمَل الكتاب على خمْسة (5) فصول، وكلّ فصل يلحق السّابق يكون مُواصلًا لآليات الحديث عن ظواهر مُعجمِيّة مَشفوعة بآليات المُستويات اللّغويّة الأربعة: الصّرفيّة+ المُعجمِيّة+ الدّلاليّة+ التّركيبيّة.  وهي من تلك الظّواهر التي عولجت عند قدمائنا بقوّة، وبخاصّة عند فقهاء اللّغة على غرار: ابن جنّي+ ابن فارس+ الزّمَخشري+ السّيوطي... وكانت لهم دراسات في بنيّة اللّغة مِن جوانبها الصّوتيّة والصّرفيّة والنّحويّة، بالتّركيز على عِلْمَين هما: عِلم النّحو وعِلم العربيّة. كما نال هذا العِلم دراسات مُعاصرة كثيرة مِن قِبل المعاصرين وهم كُثّر مِن مِثل: رمَضان عبد التّواب+ كمال بشر+ إبراهيم السّامرائي...  إلاّ أنّ أجزاء الكتاب في الحقيقة انقسمَت إلى: ما له علاقة بالبنيّة المُعجمِيّة، هذا مِن جهة، وجهة أخرى ذهبت المَقالات الأخرى إلى قراءة لغويّة في بعض قرارات مَجمَع اللّغة العربيّة بالقاهرة، وفي بعض الحروف مِن المُعجم الكبير. وقبل الحديث عن مَظاهر التّحليل، أضع القارئ في مَضمون الكتاب في فصوله، وبصورة مُختصرة، وهذا ما تقتضيه المَقالة.  


ولا أخفي القارئ أنّ الكتاب يحمِل ثروة مِن المَعلومات التي نحن بحاجة إليها في إنجاز المُعجم التّاريخيّ للّغة العربيّة الذي يقوم اتّحاد المَجامِع اللّغويّة على إنجازه، وإنّ اللّجنة العلمِيّة مَدعوة للإفادة مِن هذا الكتاب عن طريق توصيله إلى المُحرّرين، ويفيد في: المَسكوكات اللّغويّة+ المُتلازمات+ المُكافِئات. وإنّه عمَل رصين يحتاج صاحبه إلى تشجيع وتثمين جهده في هذا العمَل الخاصّ بالتّراث المَعجمي، ونحن بحاجة إليه في وقتنا المُعاصر في المُحتوى الرّقمي. ونشهد له بالرّصانة العلمِيّة واللّغة السّليمَة، والحفر العميق في فقه اللّغة العربيّة. ولهذا يُمْكن لي تسجيل بعض النّقاط في مَسألة التّحليل، وهي:
لقد عالج د.مصطفى يوسف قضايا قديمَة مِن فقه اللّغة العربيّة، وهي مِن باب المَكرور في مَنظورنا الحديث، وحتى بالنّسبة للأمْثلة/ الشّواهد هي ذاتها المُكرّرة، ويجدر بنا أن نربط القارئ العربيّ بواقعه، ولكن مِن الجيّد كذلك أن يفهم الماضي في صورة الحاضر. وهذا ما نريده أن يكون في الباحثين العرب المُستجدين على فقه اللّغة العربيّة، بأن يضعوا رِجْلًا في الأصالة، ورِجْلًا في الحداثة. 
تصدّى د.مصطفى يوسف لنقطة مُهمّة وهي مَسألة المُكافئات التي أثار شُعَلًا مِنها، وهي القضيّة الحديثة التي لم تكن العربيّة فيها على قدم وساق مَع الأجنبيات، ولم تنل المُصطلحات المُعرّبة مَوقعها في الاستعمال العفويّ، ولم تسطع مُنافسة المُصطلحات الأجنبيّة. والأهمّ في هذه المَسألة أنّ الباحث كان شجاعًا في حمْل مُصطلح (وخز الضّمير) أمام المَجمَعيين بأنّ ما يقدّمونه في هذا المَجال ليس مُنافسًا، وما يحمِله (المُعجم الكبير) عبارة عن تأريخ التّاريخ اللّغويّ. هي شجاعة (مُصطفى يوسف) مِن شجاعة العربيّة التي تعاني في هذا الظّرف مِن الكثير مِن البطء المَجمَعي في مَسائل يفترض أنّها مِن المُنجز.


وإنّ مما أثلج صدري حديث الباحث (مصطفى يوسف) عن أسماء الآلة التي بقيت في صيغ ثلاث: فعول+ مِفعلة+ فاعول، وكذلك المَصادر الصّناعيّة. وأنّ المُكافئات الأجنبيّة لا تُحصى ولا تُعد، وهي نظرة حديثة أرادها الباحث أن يقول أين دور هذه المُؤسّسات المَجمَعيّة في تحريك الصّيغ الصّرفيّة التي بُنيت عليها العربيّة في عصر التّدوين، وهي إحدى عشرة (11) صيغة، وأين ذلك الزّمان، وهذا الزّمان الذي يُدِرّ علينا آلات لها أسماء جديدة تحتاج إلى ميزان صرفيّ جديد. وعهدي في الباحث أنّه مَسّه بعضَ الحَرَج في هذه المَسألة؛ على اعتبار أنّها مَسألة نقديّة لأداء المَجمَعيين، ولكنّي لمَست دعوته غير الصّريحة، وهي لا بدّ مِن نظرة جديدة في الميزان الصّرفي ليُعبّر عن المُصطلحات الجديدة التي تأتي بها ألفاظ الحضارة. هي دعوة للمَجمَعيين في ضرورة التّفاعل مَع المُعطى المُعاصر في أنّ العربيّة أصيلة وحيّة، ولها هويّة مُتفاعلة مَع المُستجدات بما لها مِن جينات داخليّة تقبل الإضافة مِثل الاشتقاق وتوابع النّمَو اللّغويّ الذي استفاض فيها الباحث. 
لقد عالج الدكتور مصطفى يوسف قضايا شائكة تُعدّ حِكْرًا على كبار فقهاء العربيّة، وبخاصّة تلك القرارات التي لا يُطعن فيها إلاّ الخالدون، وأراه مِن سدنة الدّاعين لتغيير نظرة وضع المَجامِع في بعض التّسامح اللّغويّ الذي نراه في تلك القرارات العلمِيّة التي أنجزها مَجمَع القاهرة (القرارات العلمِيّة في خمْسين عاما 1934- 1984) والقرارات العلمِيّة في ثلاثين عامًا لمَجمَع دمشق... ومَجموعة مِن القرارات الملاحق، وفي نظرة مُتفحصّة تجد بعضها غير مَبنيّة على صواب لغويّ، وبخاصّة في تلك الإجازات بخصوص لغة الإعلام. 
وأنا أقرأ للباحث مصطفى يوسف، ويتبادر إلى ذهني تلك الأبحاث والدّراسات الرّصينة النّاقدة للباحث التّونسي (مُحمّد رشاد الحمْزاوي) في تلك الأبحاث التي أنجزها في أعمال مَجمعيْ: القاهرة ودمَشق، وألمسُ التّكامُل بينهما في تلك المَرجِعيات الحديثة التي اعتمَداها وهما يُقدّمان أبحاثًا في أعمال المَجمَع التي تُعدّ مِن الحقول المُلغّمَة بما للمَجمَعيين من صفة الاحترام العلمي والهيبة، وأنّهم لا يقولون إلاّ الصّواب.

اقرأ أيضًا| «ظواهر لغوية في المعجمية العربية» للدكتور مصطفى يوسف بمعرض الكتاب
إنني قد وجدت نفسي في تكامُل مَع الدكتور مصطفى يوسف في النّظرة الحديثة لمنَطق اللّغة في ضرورة إعادة توصيف المُستويات اللّغويّة، وعلى المَجمَعيين الكبار مُساعدة المَجمَعيين الشّباب في المُرافقة العلمِيّة لتطويع هذه المُؤسّسات المَجمَعيّة لتكون في مُستوى رفْع المَخاطر عن لغة الشّباب بعد التّوجيه اللّغويّ السّليم. وهي نقطة التِقاء في عمَل لي حول أداء المَجامِع، وبالذّات في قضايا النّحو العربيّ، وهو المُستوى الرّابع الذي تكلّم فيه المؤلف باقتضاب، ولكنّه أثار قضايا قديمَة حديثة هي مَحلّ خلاف في الماضي وكان عليها أن تكون مَحلّ مُوافقة؛ باعتبار (اللّغة وضْع واستعمال؛ فإذا تعارضَ الوضْعُ مَع الاستعمال، فالاستعمال أولى). 
إنّ الباحث (مصطفى يوسف) جادٌّ في عمَله العلمي، وقلّ أن تجد الشّباب المُعاصر يعود إلى الدّراسات القديمَة، أو في تعبيرنا (العودة إلى الكُتُب الصّفراء) وهي مُغامَرة ركبها الباحث، وخرج مُنتصرًا بتلك الأفكار والمُقترحات، ونروم أن تنال مَوقعها في قرارات مَجمَع القاهرة، وهو يشتغل في رحاب المَجمَع، وله أفكار نحن بحاجة إليه، والعِلم صناعة أفكار وتداول. وعهدي به باحثًا رصينًا بضاعته خدمَة التّراث خدمَة علمِيّة بالمُتون، إلى جانب مُحاذاة ذلك بالمُعاصرة، والطّريق تصنعه الأقدام بكثرة المُمارسة، وهذه سمّة الباحث في تواضعه وفي مُختلف أبحاثه، ولا تسمَع مِنه إلاّ (مِنكم نتعلّم) وهذا مِن تواضع العلماء، فأَنْعِم بكم سي مُصطفى! 
ما أريد تأكيده في هذا المقال أنّه مِن المطالب الحديثة أن نربط هذه الأمور بالدّراسات الحديثة، على غرار التّداوليّة وتحليل الخطاب، وأنّ اللّغة لها عوارض، ولها مَواقف، ولها جوازات، ولها ما لا يجوز. وكان على المؤلف أن يقول: لا يجب أن نترك العربيّة سبهللة، ولكن لا يجب أن تكون لغة قُدمى قديمَة لا تقبل المُناولة والاستعمال وفق الأرضيّة المَعرفيّة لمُستعمليها، دون تراخٍ في خصائصها الصّرفيّة الحديثة، ولا تشدُّد في بنياتها على أنّها هي الماضي الذي لا نخرج مِنه، ولا نتجاوز عصر الاستشهاد، ونحكم على بنيات اللّغة العربيّة بأنّها لا تقبل المُعاصرة. 
لقد وددت توجيه فقهاء اللّغة مِن خلال هذا الكتاب إلى التّشبيك الآلي الذي يتيحه الاشتقاق ونمُو الألفاظ مِن خلال نظريّة (الخليل بن أحمد) في تلك الدّراسات الحديثة في هندسة اللّغة العربيّة، وأنّ اللفظة المُفردة تكبر يمينًا/ يسارًا، وتؤدّي في كلّ ذلك مَعنى بما لا نهاية له، وتعود مِن حيث انطلقت كلفظة مُفردة في مَجاري الكَلِم على رأي سيبويه. وكان يمكن للمؤلف أن يعود إلى النّظريّة الخليليّة الحديثة للأستاذ (عبد الرّحمَن الحاج صالح) هذا مِن جهة، ومِن جهة أخرى سيكون البحث ماتعًا عندما نربط هذا بفكرة التّحويليّة التّوليديّة للباحث (أفرام ناعوم تشومسكي) الذي تحدّث باستفاضة عن فكرة البنيّة اللّغويّة في أيّة لغة، مِن خلال كتابه المَشهور (التّراكيب النّحويّة). 
وهناك لازمَة ضروريّة في مَجال الصّرف، وفي مَجال المُصطلحات، وما له علاقة بالمُكافئات والمُتلازمات، وصعوبة تحصيلها في الوقت المُعاصر، بتغيّر مُعطى المُجاليّة. ومِن الأشياء التي نريدها أن تكون في هذا الكتاب القيّم الدّعوة إلى الاستثمار في المُحتوى الرّقمي، وهو الذي يحلّ لنا مُشكلة العربيّة في تاريخها العميق وفي الفلسفة اللّغويّة، والدّعوة إلى ربط ذلك بالتّراث المُمْتدّ في المَكان وفي الزّمان وفي العِرفان، ولا يُمْكن تعقيلُه إلاّ بالنّمْذجة التي يُعطيها المَسح الضّوئي/ OCR وما تُقدّمه المُجدولة/ Excel مِن فتوحات في مَيْدان اللّسانيات التّقانيّة/ الحاسوبيّة؛ وهي مِن علوم العصر التي يجب الاستثمار فيها؛ لجعل التّراث العربيّ في مُتناول القارئ المُعاصر، وهي ضرورة نروم أن تكون في مُستوى هؤلاء الفقهاء المَجمَعيين في توجيه البحوث المَجمَعيّة للرّقمَنة، ولو كان ذلك مُنذ زمان، لما تأخّر البحث في المَشاريع الكبيرة التي أنجزتْها المَجامِعُ، ومنها (المُعجم الكبير) الذي لا يزال في حرف (الطّاء) ولا يزال يعيش عمْرًا آخر، وطالَ به الأمَدُ "طالَ الأمَدُ على لُبَدٍ".  
وفي الختام أقول: هناك كلام كثير يُقال في هذا المَقام، ولكنّي أقول وبصراحة: لقد ربحنا باحثًا مائزًا لصالح المُعجم التّاريخيّ، وأراه مَكسبًا لنا في لاحقٍ مِن المَشاريع أن يكون مَعنا باحث وفقيه لغويّ مُبرز مِن أرض الكنانة، وقد تناسلَ مِن علماء أجلّاء تعلّمْنا مِنهم تشفير العربيّة، وأنا واحد مِن أولئك الذّين تتلمَذوا على مُعلمين ومَشايخ ودكاترة مِن مِصر الشّقيقة؛ وهم مِن النّوع العالي، وكان المُنطلق مِن الصّفر، ولكن تلك الرّعايّة العلمِيّة مِن دولة مِصر العربيّة التي أمَدّت الدّولة الجزائريّة بأفضل مُعلّميها كان لهم رجع الصّدى بأن قامَ في بلدنا حبُّ العربيّة وانتشارُها، وظهر في الجزائر العِلمُ والعلماءُ، والحمْدُ للّه على كلّ حال. وحُبًّا لكم جميعًا، وأنا جدّ مَحظوظ بكتابة هذا المَقال في كتاب الباحث النّحرير (مُصطفى يوسف).